ستي فاضمة.. مياه تروي الهاربين من قيظ مراكش

على مسافة تقل عن ساعة واحدة من مدينة مراكش، تفتح الطريق صوب وادي أوريكة ذراعيها أمام آلاف الزوار الباحثين عن متنفس طبيعي من حرارة الصيف اللاهبة. هناك، وسط قمم الأطلس الكبير، تقع قرية ستي فاضمة، واحدة من أشهر وجهات السياحة الجبلية في المغرب، حيث الهواء العليل، والخُضرة الممتدة، وجدول المياه الذي لا ينضب.

الطريق إلى ستي فاضمة ليس مجرّد انتقال جغرافي، بل رحلة حسية تتغير فيها المشاهد والمناخات من جاف إلى نديّ، ومن صخب المدينة إلى سكون الطبيعة. وعلى امتداد هذه الطريق، تنتصب محلات صغيرة، ومطاعم شعبية، وباعة متجولون يعرضون عسلًا طبيعيًا ونباتات طبية وزيت الأركان، في مشهد لا تخطئه العين.

قرية تعانق الجبال وتستقطب القلوب

عند الوصول إلى القرية، يلفحك هواء بارد نسبياً، تتراوح درجات الحرارة فيه بين 25 و30 درجة مئوية، حتى في عز الصيف، حين تتجاوز الحرارة بمراكش 44. هنا يبدأ الزوار في استعادة أنفاسهم، ويأخذون وقتهم للتأمل في طبيعة بكر لا تزال صامدة في وجه زحف الإسمنت والعمران.

تتمركز الحياة في ستي فاضمة حول واديها، حيث تتوزع المطاعم التقليدية على ضفافه، وتفترش بعضها الزرابي قرب مجرى الماء مباشرة، في مشهد فريد تختلط فيه رائحة الطاجين الممزوج بالأعشاب الجبلية، بعبق الجوز والتين والتربة المبللة.

سبع عيون تحرسها الطبيعة

تُعد شلالات ستي فاضمة السبع أشهر معالم القرية، وهي مقصد يومي لعشرات الزوار الذين يخوضون مغامرة الصعود مشيًا على الأقدام، وسط مسالك وعرة في بعض النقاط، لكنها ممتعة ومليئة بالمفاجآت. في الطريق، ينتصب أطفال يبيعون الماء البارد، وشباب يعرضون خدمات الإرشاد، وبعض الحرفيين الذين يعرضون تذكارات يدوية.

تقول فاطمة، شابة من الدار البيضاء قدمت برفقة أصدقائها: “تسلق الشلالات متعة لا تُنسى. نشعر وكأننا دخلنا عالمًا آخر… هواء نقي، وماء بارد، ومنظر يخطف الأنفاس”.

وتُتيح بعض برك الشلالات فرصة للسباحة، فيما يكتفي البعض بالتقاط الصور من أعالي الصخور أو التمدد على الحصى الدافئة تحت ظلال الأشجار.

الطاجين يلامس الماء

على امتداد مجرى الوادي، تقام مطاعم تقليدية تتيح للزوار تجربة فريدة: تناول الطعام بينما المياه الباردة تمر أسفل الطاولة. في هذه المطاعم، يُطهى الطاجين على الفحم ببطء، ويُقدّم مع خبز “تنورت” التقليدي وشاي بالأعشاب البرية.

مسعود فاتحي، رئيس جمعية أصحاب المطاعم والتجار بشلالات ستي فاضمة، يقول: “نحرص على تقديم خدمات جيدة. هناك مراقبة دورية لجودة الطعام واحترام الأسعار. الزبون عندنا يجب أن يشعر وكأنه في بيته”.

ويُشدد على أن التعاون مع السلطات المحلية ومكتب المرشدين أساسي لتأمين تجربة سياحية مريحة وآمنة.

مرشدون من الجبل

خلف هذا الحرك السياحي، تقف جهود منظمة يقودها محمد بن عدي، رئيس مكتب المرشدين المحليين بستي فاضمة، الذي يؤكد أن عدد المرشدين المعتمدين بلغ 25، يقدمون خدمات متعددة، من جولات في الشلالات إلى رحلات في القرى النائية، وحتى مغامرات على ظهر البغال والخيول.

ويضيف: “هناك إقبال كبير في شهري يوليوز وغشت، ونحن نستعد لذلك منذ وقت مبكر. نحرص على أن يكون الإرشاد مسؤولًا، يحترم البيئة ويقدّر خصوصية المكان”.

السياحة البيئية… رهانات المستقبل

من أبرز التحديات التي تواجه ستي فاضمة الحفاظ على طابعها البيئي، في ظل تزايد أعداد الزوار سنويًا. ويبدو أن هناك وعيًا جماعيًا بهذا الرهان، إذ تُنظم حملات تحسيسية بانتظام، بشراكة بين الجمعيات والسلطات والمرشدين، تدعو لاحترام الطبيعة، وعدم رمي النفايات، والحفاظ على نظافة الوادي والشلالات.

وترى مليكة.ق، فاعلة جمعوية محلية، أن “الوعي يتطور تدريجيًا، وهناك تجاوب من الزوار، خصوصًا عندما يجدون لافتات واضحة ونصائح مباشرة من أصحاب المطاعم والمرشدين”.

ملاذ الجبل وذاكرة الماء

في زمن أصبحت فيه المدن تضيق بأنفاس سكانها، تبدو قرية ستي فاضمة كأنها تنتمي إلى زمن آخر. مكان تلتقي فيه الجغرافيا بالتاريخ، والجمال بالبساطة، وحيث يمكن لزائر أن يغادر وقد غُسل قلبه قبل جسده.

فمن أراد هروبًا من الضجيج، ونقاهة بين أحضان الطبيعة، واكتشافًا لتفاصيل الحياة الجبلية الأصيلة، لن يخطئ الطريق إذا اتجه شمالًا من مراكش، وسلك درب وادي أوريكة، وصولًا إلى ستي فاضمة… حيث الشلالات تُنشد الانتعاش، والجبال تهمس للزوار: “هنا السلام”.

Comments (0)
Add Comment