متحف جامعي بوجدة يسافر بزواره عبر التاريخ

يشكل المتحف الجامعي للأركيولوجيا والتراث برحاب كلية العلوم بجامعة محمد الأول بوجدة، فضاء للسفر عبر التاريخ لاستكشاف آثار وتراث بجهة الشرق تشهد على نمط حياة الإنسان القديم بالمنطقة. 

ليس متحفا تقليديا ت عرض فيه التحف على الرفوف، بل فضاء تفك فيه رموز ونقوش على الجدران منذ آلاف السنين، لتسرد حكايات الإنسان القديم كما لم ت رو من قبل.

في هذا المتحف الذي تأسس سنة 2021، لا ت قاس القيمة بعدد القطع المعروضة، بل بقدرتها على إيقاظ الذاكرة من خلال التوثيق لأربعة أزمنة جيولوجية، وجمع شظايا التاريخ المتناثر عبر كهوف ومغارات ومواقع منسية، لتعاد صياغته في خطاب علمي رفيع يعانق الأسئلة الأولى للوجود.

فمن مغارات تافوغالت وزكزل، إلى كنفودة وكهف الغار، ومنطقة تويسيت وعين بني مطهر، إلى تندرارة وفجيج، يقدم المتحف توليفة غنية من الشواهد المادية التي عثر عليها خلال بعثات أركيولوجية دقيقة، لتتحول هذه الفتات من العظام والحجارة والنقوش إلى أجوبة مذهلة عن أسئلة الكينونة، والهوية، والاندماج مع المحيط.

وبفضل هندسته الداخلية المدروسة، التي تستثمر الفضاء بشكل عملي وجذاب، ت عرض الل قى ضمن مسارات كرونولوجية تسمح بتتبع تطور الإنسان في المنطقة. كما يضم المتحف مجسمات ثلاثية الأبعاد ومقاطع مصورة توثق مراحل الاكتشافات الميدانية وظروفها.

ويحتوي المتحف على مجموعة غنية من الل قى والقطع الأثرية التي تم العثور عليها في مواقع أركيولوجية متعددة بجهة الشرق، وتشمل جماجم بشرية، وأدوات حجرية استعملها الإنسان القديم منذ الزمن الجيولوجي الأول، وعظاما بشرية، وبقايا حيوانية، وحليا تقليدية، ونقوشا، وقطعا نقدية نادرة، تسلط الضوء على نمط عيش هذا الإنسان وتفاعله مع محيطه البيئي والاجتماعي.

ولعل أبرز ما يشد انتباه الزائر ويجسد الأهمية العلمية العالمية لمعروضات المتحف، هو تلك الجمجمة البشرية العائدة لـ”إنسان تافوغالت” التي يقدر عمرها بنحو 15 ألف سنة وتمثل ليس فقط مجرد شاهد على الماضي، بل دليلا ماديا على أقدم عملية جراحية ناجحة في تاريخ البشرية.

وفي حديث للصحافة، أوضح حسن أوراغ، الأستاذ الباحث بكلية العلوم بجامعة محمد الأول بوجدة، والمشرف على المتحف، أن هذا الصرح العلمي يعد ثمرة جهد جماعي طويل، يعود “لأكثر من 20 سنة من الأبحاث الميدانية”، التي جابت فيها فرق البحث مواقع متعددة مثل جرادة، وتافوغالت، وزكزل، وفجيج، لتجمع شتات ذاكرة المنطقة قطعة بقطعة، أو عبر التبادل مع مؤسسات أجنبية.

وأبرز أن الدافع الأساس نحو إحداث متحف للتراث بكلية العلوم بوجدة، يكمن في غنى المنطقة الشرقية، مشيرا إلى أن هذه الأخيرة غنية بالتراث والمآثر التاريخية.

ولفت إلى أن الأبحاث الميدانية، كشفت عن استيطان عدة حضارات للمنطقة عبر العصور، كالألدوفانية، والأشولية، والمستيرية، والعاترية، والإيبيروموريزية، وحضارة العصر الحجري الحديث؛ ما يؤكد أهمية المنطقة في تسلسل الحضارات عبر أزمنة مختلفة.

وأوضح الأستاذ الجامعي أن المتحف يوثق لحقب زمنية مختلفة، بدءا من الزمن الجيولوجي الأول، الذي يمتد بين 540 و250 مليون سنة، وصولا إلى العصر الحديث، ويضم ل قى أثرية ومستحاثات وبقايا عظام حيوانية وبشرية، فضلا عن نقوش صخرية تعود إلى ما يناهز 12 ألف سنة.

كما كشف عن التحضير لإحداث متحف جهوي للتعريف بالتراث الطبيعي والأركيولوجي للشرق خارج الكلية، من أجل تثمين هذا التراث وجعله وسيلة للتنمية ومتاحا للساكنة حتى لا يبقى حبيس الأدراج أو حكرا على الباحثين.

ومن جانبه، قال أستاذ الجيولوجيا، امحمدي هشام، إن المتحف ليس مجرد مزار، بل مؤسسة تعليمية متكاملة تجتمع فيها المعارف النظرية بالجانب التطبيقي؛ مما يرسخ المعلومة، ويشعل الفضول العلمي للطبلة.

ويمثل المتحف، إلى جانب وظيفته التوثيقية، منصة بيداغوجية لفائدة الطلبة الباحثين في مجالات الأركيولوجيا، والأنثروبولوجيا، والجيولوجيا؛ حيث يوفر فضاء حيا للتكوين والبحث العلمي الميداني، مما يجعله رافعة للتعليم الجامعي التشاركي.

ولا يقتصر دور المتحف على العرض الكلاسيكي للتحف الأثرية، بل يسعى أيضا إلى الانخراط في الدينامية الثقافية للجهة، من خلال تنظيم معارض مؤقتة، ولقاءات علمية، وورشات لفائدة التلاميذ والمهتمين؛ ما يسهم في نشر الوعي الأثري وترسيخ ثقافة الحفاظ على التراث في أوساط الناشئة.

Comments (0)
Add Comment