زبيدة خليفة.. طالبة أسقطتها رصاصة في الرأس خلال تضامنها مع فلسطين
ذاكرة الألم والأمل.. يساريون قضوا بالسجن أو الاختطاف والنفي
بصم اليساريون المغاربة باختلاف تنظيماتهم، على تجربة سياسية يستحيل أن يتخطى كاتب التاريخ أو قارؤه فصولها المطبوعة بلغة التضحيات الجسيمة والاعتقالات والاغتيالات والنفي والتهجير.. هي تجربة تنبعث منها رائحة الأقبية النتنة، وأصوات مفاتيح الزنازين الغليظة، وآلام البطون الفارغة، كما تنبعث منها إرادة الحياة، التي كانت تشد أغلب من عاشوها إلى كتابة “المستقبل” بقلم الأمل في الأفضل، وإلى رسم لوحة القادم بألوان تنصف قضية الإنسان المغربي.
وباختلاف هوامش نشاطهم، سواء تلك التي تستحضر الخطوط الحمراء أو تلك التي ترى بالأخضر كل الخطوط، من أقصى الراديكالية السياسية إلى أقصى الإصلاحية، ومن العمل الثوري السري والتخطيط لقلب موازين الحكم إلى النشاط العلني الهادف إلى الإصلاح، سجّل التاريخ أسماء كثيرة لمناضلين قضوا نتيجة إيمانهم بالمواقف، في زمن “الجمر والرصاص” الذي لم يؤمن إلا بلغة البقاء للأقوى..
في هذه الحلقات، وطيلة أيام شهر رمضان، ستُرجع جريدة “أمَزان24” معكم أسماء “استشهدت” في السجون، أو قضت بها سنوات طويلة لتخرج بأعطاب في الجسد والذاكرة، وأسماء أُجبرت على توديع الوطن لتراقبه من المنفى.
الحلقة الواحدة والعشرون: زبيدة خليفة.. طالبة أسقطتها رصاصة في الرأس خلال تضامنها مع فلسطين
يستحضر الكثيرون ممن عايشوا ذلك اليوم، هول الصدمة بعد انتشار أخبار سقوط طالبة بالرصاص الحي في الحي الجامعي إناث بالمركب الجامعي ظهر المهراز بفاس. كانت صدمة الطالبات اللواتي كن إلى جانبها أشد، وهن يشاهدن زبيدة تسقط مدرجة في دمائها وسط الحشد.
في ذلك اليوم، كانت الشعارات المُرددة من قبل الطالبات صاخبة، وكانت الزغاريد تعلو في سماء الحرم الجامعي، وكانت لغة التضامن مع الشعب الفلسطيني هي السائدة، لكن صوت الرصاص الحي الذي استعين به لردع التظاهرة الطلابية أفسد “عرسا نضاليا”، وفجأة تستقر رصاصة في رأس زبيدة خليفة، ليحل صمت الصدمة مكان الشعارات، ويعلو البكاء والصراخ بدل التنديد بجرائم الإحتلال الصهيوني.
لم تكن زبيدة خليفة الوحيدة التي سقطت في ذلك اليوم، لكنها كانت الأيقونة المتميزة، والجوهرة الثمينة التي انتزعت من عقد منظمة “الاتحاد الوطني لطلبة المغرب” تاركة فراغا كبيرا وذكرى أليمة، لتتحول بذلك إلى رمز شاهد على جزء من سنوات “الجمر والرصاص”، وتملأ صورها ساحات الكليات المغربية، وترفع كل سنة الشعارات الهاتفة باسمها والمنددة باغتيالها.
زبيدة خليفة الطالبة المغربية والمرأة، التي شكل موتها، بالإضافة إلى كونها فاجعة، إعلانا رسميا على أن ارتباط المغاربة، لاسيما الطلبة بالقضية الفلسطينية وجداني، وهو ارتباط تجاوز الشعارات والبيانات والمواقف، إلى اندماج الدماء التي أريقت، لتصنع ذاكرة مشتركة تجسد ملاحم النضال، من أجل أن تكون فلسطين حرة وأن يرحل من شردوا اللاجئين والشيوخ والأطفال.
حُملت جثة الشهيدة زبيدة خليفة على الأكتاف في تظاهرة مليئة بالغضب، لتتوجه هذه الأخيرة إلى وسط مدينة فاس، لكن القوات العمومية ستواجه جموع الطلبة بالقمع، ثم ستأخذ جثة زبيدة مدرجة بدمائها، وهي التي كانت طالبة يافعة مملوءة بالأحلام، ومناضلة تدافع عن فلسطين وعلى قضايا الطلبة والشعب المغربي.
يحكي من عايشوا زبيدة أنها كانت طالبة متميزة بعدما التحقت بجامعة سيدي محمد بن عبدالله، كما أنها كانت ملهمة لباقي زميلاتها خاصة فالنضال، عرفت زبيدة بأخلاقها وانضباطه ومشاركتها في الأشكال التي يدعو لها الإطار النقابي للطلبة، ومنها الشكل الأخير الذي كان تضامنا مع قضية فلسطين، التي يعتبرها الطلبة “قضية وطنية”.
ورغم أن زبيدة كانت مازالت في سنواتها الأولى من الدراسة بالجامعة، إلا أنها كانت قد تشبعت بالفعل، بحسب ما يحكيه من عاشوا المرحلة، بقيم التحرر والنضال، ومدافعة عن مطالب الطلبة، كما كانت رافضة السياسات “الطبقية” حتى وهي لا تزال تلميذة لم تلتحق بعد بالجامعة.
لم يكتب لزبيدة خليفة النجاة عندما لعلع الرصاص الحي بظهر المهراز بجامعة فاس، وهي الجامعة التي سيطلق عليها فيما بعد ساحة 20 يناير، لكن كتبت لها ولادة جديدة عند “رفاقها”، وعند الأجيال التي ستلج الجامعة بعدها، وبقي اسمها ساطعا، كما عبرت بقصتها عن جزء كبير من الطريقة التي كانت الدولة تتعامل بها مع الأصوات المعارضة والمنددة، ولو كان الأمر يعني فلسطين وليس المغرب.
ابنة مدينة البهاليل
في مدينة البهاليل الواقعة بقرب مدينة صفرو، ازدادت زبيدة خليفة، في كنف أسرة فقيرة، عند بلوغها سن التمدرس التحقت بالمدرسة الابتدائية، ثم أكملت المسار الدراسي بالإعدادية والثانوية بنفس المنطقة.
خلال فترة تمدرسها، عرفت زبيدة بنضالها من داخل الحركة التلاميذية، وعند حصولها على البكالوريا التحقت بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بظهر المهراز فاس، وإلى حانب دراستها ستنخرط في النضال في صفوف الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، غير أن رصاصة غادرة سترديها قتيلة يوم 20 يناير من 1988.
ويحكي أبو علي، وكان ناطقا رسميا باسم الطلبة القاعديين آنذاك، أن الرصاصة “وجهت بشكل مقصود لرأس زبيدة خليفة وليس لغيرها، لأنها كانت تبدي شجاعة وتحفز الطالبات على الصمود ومواصلة الاحتجاج، عندما كانت المواجهات بين الطلبة والأمن على أشدها”.
20 يناير..
في صباح يوم 20 يناير من سنة 1988، انخرط طلبة المركب الجامعي ظهر المهراز في شكل احتجاجي تضامني مع فلسطين، عرف مشاركة كبيرة من لدن الطلبة تقدر بالآلاف، وبينما تخرج التظاهرة من الحرم الجامعي اتجاه وسط المدينة بفاس، تقرر السلطات مواجهتها بالعنف من أجل تفريقها، فنشبت مقاومة من طرف الطلبة ستستمر ساعات.
في تلك اللحظات، وبينما تقهقر الطلبة نحو الأحياء الجامعية، سيسمع الطلبة أصوات الرصاص الحي، وبينما كانت مسيرة مكونة من الطالبات تجوب حي الإناث حدثت الفاجعة، عندما استهدفت الطالبة زبيدة خليفة برصاصة في الرأس لتسقط متوفية في حينها.
سياق الاحتجاجات..
خرجت الاحتجاجات الطلابية بالمغرب تعاطفا وتضامنا مع الشعب الفلسطيني، الذي كانت انتفاضته قد انطلقت آنذاك، وهي الانتفاضة المؤرخة يوم 8 ديسمبر 1987، والتي انطلقت بعدما أقدم جنود الاحتلال الإسرائيلي على دهس مجموعة من العمال الفلسطينيين أمام حاجز بيت حانون، فتوفي نتيجة هذا الحادث 5 أشخاص وأصيب 7 آخرين، وكانوا جميعهم يقطنون بمخيم جباليا للاجئين، فجاء الرد على شكل انتفاضة جماهيرية بفلسطين.
سرعان ما انتشرت الاحتجاجات في جميع أنحاء قطاع غزة، خصوصا في اليوم التالي، عقب تشييع جثامين الشهداء، وما هي إلا ساعات حتى امتدت التظاهرات إلى مدن ومخيمات الضفة الغربية، فخرجت المظاهرات الغاضبة من كل مكان، فكان أن واجهها “الكيان الصهيوني” بعنف أكبر، ليسقط أرواح أخرى، واستمرت الانتفاضة منذ ذلك الحين إلى حين توقيع معاهدة أوسلو في 13 دجنبر من سنة 1993.
وشهدت الاحتجاجات الفلسطينية آنذاك تعاطفا واسعا من طرف المغاربة، وخاصة الطلبة والتلاميذ الذين خرجوا للاحتجاج في كل مكان، وكانت السلطات قررت رسميا أن تمنع أي احتجاج، لكن الطلبة سيتحدون القرار، ليجسدوا موقفهم “قضية فلسطين قضية وطنية”، فتطورت الأحداث إلى سقوط زبيدة خليفة بالرصاص الحي في وسط للحي الجامعي.
تأبين روح زبيدة..
“إلى روح الشهيدة الغالية زبيدة خليفة
هذه الطفلة، في جبهتها
خمس رصاصاتٍ
وشمسٌ ..
وشهادة..
عيناها قبَّرةٌ حمرا
وخدّاها عباده
سقطت زنبقةً من ذهبٍ
في شارع الحرية الطالعِ
من قلب المدينه
شارع الحريّة الطالعِ
من قلب الزقاقاتِ،
ومن قلب المتاريس الحصينة
سقطت تهتف للنّصر
كيانا.. وسيادة
فهي في القلب هتافٌ
وعلى العنق قلادة
وهي عنوان كتابِ
وهي ..
تاريخ ..
ولادة”
الكاتب مجهول.