ادريس بنزكري.. من مناضل جذري محكوم بـ 30 سنة إلى هندسة “العدالة الانتقالية”
ذاكرة الألم والأمل.. يساريون قضوا بالسجن أو الاختطاف والنفي
بصم اليساريون المغاربة باختلاف تنظيماتهم، على تجربة سياسية يستحيل أن يتخطى كاتب التاريخ أو قارؤه فصولها المطبوعة بلغة التضحيات الجسيمة والاعتقالات والاغتيالات والنفي والتهجير.. هي تجربة تنبعث منها رائحة الأقبية النتنة، وأصوات مفاتيح الزنازين الغليظة، وآلام البطون الفارغة، كما تنبعث منها إرادة الحياة، التي كانت تشد أغلب من عاشوها إلى كتابة “المستقبل” بقلم الأمل في الأفضل، وإلى رسم لوحة القادم بألوان تنصف قضية الإنسان المغربي.
وباختلاف هوامش نشاطهم، سواء تلك التي تستحضر الخطوط الحمراء أو تلك التي ترى بالأخضر كل الخطوط، من أقصى الراديكالية السياسية إلى أقصى الإصلاحية، ومن العمل الثوري السري والتخطيط لقلب موازين الحكم إلى النشاط العلني الهادف إلى الإصلاح، سجّل التاريخ أسماء كثيرة لمناضلين قضوا نتيجة إيمانهم بالمواقف، في زمن “الجمر والرصاص” الذي لم يؤمن إلا بلغة البقاء للأقوى..
في هذه الحلقات، وطيلة أيام شهر رمضان، ستُرجع جريدة “أمَزان24” معكم أسماء “استشهدت” في السجون، أو قضت بها سنوات طويلة لتخرج بأعطاب في الجسد والذاكرة، وأسماء أُجبرت على توديع الوطن لتراقبه من المنفى.
الحلقة الرابعة والعشرون: ادريس بنزكري.. من مناضل جذري محكوم بـ 30 سنة إلى هندسة “العدالة الانتقالية”
منذ سنة 1950 إلى سنة 2007، جرت مياه كثيرة في جدول حياة ادريس بنزكري. وعلى امتداد 57 سنة، كان صبيب تلك المياه راديكاليا لفترة طويلة، قبل أن يتحول إلى صبيب حقوقي، يؤمن بالمؤسسات ويشتغل من داخلها بغاية طي صفحة الماضي الأليم، الذي كان هو أيضا من ضحاياه.
مسيرة ادريس بنزكري، مسيرة رجل وطني صادق، ظل مؤمنا بخدمة الوطن إلى أن فارق الحياة في عمر مبكر وهو يصارع مرض السرطان، فهو رجل قادته تجربته إلى مخابرة السجون والاعتقال التعسفي والتعذيب في المخافر السرية، وإلى قضاء 17 سنة وراء القضبان، نتيجة معارضته نظام الحسن الثاني ونضاله من أجل إسقاطه.
في البدء كان الحلم بسيطا، أن يختفي الظلم وأن تعوض بحياة عادلة يتساوى فيها الجميع، لكن سبل إنزال داك الحلم من سماء التجريد، جعلت ادريس يخوض غمار تجربة سياسية تعتبر الأخطر في تاريخ المغرب المعاصر، إذ انتمى إلى المنظمة الماركسية اللينينية “إلى الأمام”، وقادته دروبها إلى التأطير والاستقطاب والعمل السري ثم الاعتقال.
وحتى بعد مرور ما يناهز 17 سنة من الاعتقال، التي خلفت في جسده ونفسيته جراحا لا تندمل، أبى بنزكري إلا أن يواصل المسار والمسيرة، وهذه المرة وجّه شراع سفينته النضالية في اتجاه حقوق الإنسان، حيث سيعمل إلى جانب رفاقه على رصد الخروقات وانتهاكات قضايا حقوق الإنسان، في وقت كان مازال فيه المغرب، يخرج بخطوات متثاقلة من الماضي الأليم الذي راكمته آلة القمع.
على الرغم مما خلفه الاعتقال، إلا أن روح بنزكري لم يكن يملؤها الحقد ورغبة السعي للانتقام، رغم أن الجراح ظلت ترافقه، وها هو يحكي لمجلة فرنسية قائلا “نشعر دائما أن الجرح لم يندمل، لكنه ليس شيئا يفسدنا من الداخل. أقول نحن وليس أنا لأن كثرا واجهوا المصير نفسه”.
وحتى عندما كان يقضي أزهى فترة ربيع عمره في السجن، لم يستسلم ادريس لبرودة الزنازن، بل حولها بمعية رفاقه إلى جبهة نضالية، دافعوا فيها عن حقوقهم، وكان له أن أتم دراسته من داخل السجن وأكمل المشوار الأكاديمي بعد معانقته الحرية، التي ظلت دائما منقوصة ولم تعوض ما مضى..
كان ادريس ممن أرسوا قواعد حقوق الإنسان بالمغرب الحديث، كما كان من مهندسي العدالة الانتقالية، لاسيما بترأسه هيئة الإنصاف والمصالح، وقد وصفه الملك محمد السادس في برقية تعزية بـ “المناضل”، وقال في رثائه إن “فقيد الوطن الكبير سيظل خالدا في ذاكرته بإسهامه الرائد في العمل التاريخي والفاعل على رأس هيئة الإنصاف والمصالحة، التي كانت لبنة أساسية في تحقيق الانتقال الديمقراطي الذي نقوده”.
ورغم ما قيل عن ارتمائه في أحضان السلطة، وتنازله عن الأفكار القديمة بغية تحصين مكاسب، إلا بعض الذين عرفوا ادريس عن قرب، يتذكرون كيف أنه عاش فقيرا ومات فقيرا، فلم يترك لذويه عقارات ولا شركات أو غيرها من الثروات، كلما تركه كان هو وصية من أجل بناء مستوصف وبعض البنيات التحتية في مسقط رأسه، وهو ما تحقق بعد وفاته..
طفولة بسيطة
في قرية آيت واحي ضاحية مدينة تيفلت، التي تبعد عن الرباط بنحو أربعين كيلومترا، والتابعة إداريا لإقليم الخميسات، ولد ادريس بنزكري ذات يوم من سنة 1950، ونشأ في كنف أسرة متواضعة الحال.
تلقى تعليمه الابتدائي في مدرسة القرية، ثم التحق بالخميسات لمواصلة تعليمه الإعدادي عام 1966، لينتقل إلى الرباط لإكمال تعليمه الثانوي في ثانوية الحسن الثاني، وهناك احتك بأساتذة الفلسفة والآداب، من مغاربة وفرنسيين، والذين كان أغلبهم نشطاء سياسيين يساريين.
بدأ الوعي السياسي لإدريس بنزكري في التشكل خلال منتصف الستينات، وتحديدا خلال أحداث انتفاضة 23 مارس 1965 بمدينة الدار البيضاء، التي قتل فيها عدد كبير من المحتجين، الذين كانوا يشاركون فيها، إذ كان لتلك الأحداث وقع كبير في نفس بنزكري، إذ شارك فيها بالكتابة على الجذران وغيرها.
نقطة التحول
خلال المرحلة الثانوية، تزايد نشاط ادريس ليتجسد أولا في الانضمام إلى مجموعة طلابية تابعة لحزب التقدم والاشتراكية (الحزب الشيوعي سابقا)، إلا أنه سيصبح أكثر انجذابا للطروحات الراديكالية و”الماوية” خاصة، كما اكتشف مجلة “أنفاس” التي كانت منبرا للمثقفين آنذاك، وتعرف على عبد اللطيف اللعبي وأبراهام السرفاتي، وعلى أعمال “بول باسكون” وعبد الكبير الخطيبي.
كان ذلك في النصف الثاني من الستينات، وحينها كان العالم مشتعلا بنهضة اليسار وحركات التحرر الوطني، وانتفاضة ماي 68 بفرنسا، ونجاح ثورات عالمية في الفيتنام وغيرها. وفي غشت من 1970 ستخرج إلى الوجود منظمة “إلى الأمام”، فكان ادريس بنزكري من بين الأوائل الملتحقين بها. ونظرا لتميزه، فقد كلف بتشكيل الخلايا الأولى في زمّور والأطلس المتوسط والغرب.
ما بين صيف 1970 وربيع 1972، عاش ادريس مرحلة من النضج الشبابي المليئة بروح التمرد والتحرر، وكان الهدف المسطر هو توجيه العمل نحو المجتمع، واكتساح الجامعات والنقابات والمراكز الثقافية ووسائل الإعلام. وهكذا، اشتغل بنزكري في جمعية تهتم بحقوق الطفل بهدف استقطاب مناضلين للمنظمة، ثم فيما بعد في نقابات الطلبة والأساتذة، قبل الدخول في السرية للإفلات من الاعتقال.
التعذيب والسجن والإيمان بالعلم..
منذ سنة 1972، ستبدأ حملات الاعتقالات الأولى ضد التيار “الماركسي اللينيني”، لكنه نجا منها، حيث كان يعيش حياة السرية. ومنذ سنة 1974 ستتصاعد حملات الاعتقال أكثر. وأثناء المداهمات التي نظمت لبيوت ومقرات المنظمة، سيتم العثور على ادريس الذي كان مطلوبا حينها، فتم اعتقاله لينال حظه من التعذيب بالمعتقل السري “درب مولاي الشريف”، إلى أن أصدرت المحكمة أحكامها القاسية في المحاكمة الشهيرة لسنة 1977، فكان نصيبه 30 سنة سجنا نافذا.
وفي السجن لم يستسلم ادريس بنزكري، بل واصل النضال إلى جانب رفاقه من أجل تحسين ظروفهم كمعتقلين سياسيين، وتوفير الشروط لمواصلة الدراسة. ومن داخل زنزانته، حصل على دبلوم الدراسات المعمقة في اللسانيات والآداب من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس بالرباط سنة 1983، ثم على دبلوم الدراسات المعمقة في اللسانيات من جامعة إيكس مرسيليا بفرنسا سنة 1987.
كما سيحصل فيما بعد على الماجستير في القانون الدولي، تخصص القانون الدولي لحقوق الإنسان من جامعة اسيكس بإنجلترا سنة 1997. وفي مجال القانون الدولي لحقوق الإنسان، أنجز مجموعة من الدراسات، من بينها “مهام وأنشطة هيئة الأمم المتحدة في إطار مجموعة العمل حول الاختفاء القسري” و”مسلسل إنشاء المحكمة الجنائية الدولية والتطورات التي شهدها القانون الدولي الجنائي”، كما أنجز دراسات حول الثقافة الأمازيغية.
هندسة العدالة الانتقالية..
من مدة محكوميته، سيقضي ادريس بنزكري ما يناهز 17 سنة من الاعتقال، إلى حين إطلاق سراحه سنة 1991. ومنذ خروجه من المعتقل كرّس حياته للنضال الحقوقي وكشف التجاوزات. وفي سنة 1996 سيساهم بمعية نشطاء آخرين في الحركة الجمعوية في تأسيس الفضاء الجمعوي، وسيلتحق بمكتبه التنفيذي سنة 1997 باسم المنظمة المغربية لحقوق الإنسان، وسيضطلع فيما بعد بمهمة إدارته بعد انسحابه من المنظمة المغربية لحقوق الإنسان.
قدّم ادريس بنزكري، عام 1999، عرضا في التجمع الوطني الأول لضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بالدار البيضاء، تناول فيه استراتيجية العدالة الانتقالية، وانتخب إلى جانب 5 آخرين، ضمن اللجنة التحضيرية للمؤتمر التأسيسي، لتشكيل “منتدى الحقيقة والإنصاف”، ثم ساهم في صياغة وثيقته الأساسية ونظامه الأساسي.
خاض ادريس من خلال المنتدى مشاورات واسعة مع كافة الفاعلين، مثلت فيما بعد منطلق المناظرة الوطنية حول ملف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي انعقدت عام 2002. هذه الخطوة أفضت عبر توصية صادرة عن المجلس الاستشاري لحقوق إلى تأسيس هيئة الإنصاف والمصالحة.
وفي سنة 2003، سيدعو الملك محمد السادس ادريس بنزكري ليقود هيئة الإنصاف والمصالحة، بغية طي صفحة الماضي الأليم، وإغلاق ملف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وكان شعارها “حتى لا يتكرر ما جرى”. تمت مواجهة موافقة بنزكري على قيادة الهيئة وقراره مغادره أصدقاءه في المنتدى، بالكثير من الانتقادات والتحفظ من طرف الذين رأوا في موقف بنزكري تخاذلا عن مواقفه السابقة وارتماء في أحضان كماشة السلطة.
ومن أهم ما قامت به هيئة الإنصاف والمصالحة، عقدها جلسات علنية لضحايا سابقين أدلوا فيها بشهادات عن القمع السياسي والتعذيب والاختطاف الذي تعرضوا له. وقامت الهيئة بدراسة أزيد 16 ألف ملف حقوقي وقررت صرف التعويض المادي للضحايا وعائلاتهم، وقامت بالتحريات التي أسفرت عن كشف المقابر السرية، التي دفن فيها كثير من ضحايا القمع والقتل خارج القانون، وتحويل مراكز الاعتقال إلى أماكن للذاكرة، وإطلاق برامج تربوية وتشريعية للمصالحة مع الماضي. ومع ذلك لم تسلم من الانتقادات، خاصة فيما يخص عدم كشفه الحقيقة في اغتيال عدد من المناضلين من بينهم المهدي بنبركة.
وسيتم حل الهيئة بعد انتهاء مهمتها وتقديم تقريرها، إذ عهد إلى المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان بمتابعة إنجاز توصياتها. وبعد تأسيس هذا المجلس، عين الملك محمد السادس ادريس بنزكري رئيسا له مرة أخرى. وفي يوم 22 ماي من سنة 2007 سيلفظ بنزكري آخر أنفاسه، ليودع ماضي كان شاهدا فيه وضحية لانتهاكات مارستها السلطة، ليرحل مخلفا وراءه مسارا سياسيا وحقوقيا متميزا.