افتتاحية.. إنذار ملكي
عقب الخطاب الملكي الناري بمناسبة عيد العرش، ظهر رئيس الحكومة، عزيز أخنوش، في تصريح صحافي مرتبك ومقتضب، يحاول فيه تدارك صدمة الرسائل المباشرة التي وجهها له الملك محمد السادس بلغة غير مسبوقة.
ففي ما يشبه الإقرار غير المعلن بفشل حكومته في تنزيل التنمية المجالية العادلة، صرّح أخنوش بأن “الحكومة معبّأة خلف جلالة الملك لتفعيل الاستراتيجيات وفتح آفاق جديدة للتنمية المجالية”، مضيفًا بأن المناسبة تُعد فرصة “لاستحضار الإنجازات الكبرى المحققة في عهد الملك”.
لكن المتتبعين للشأن السياسي المغربي قرؤوا في هذه التصريحات مجرد ردّ فعل دفاعي متأخر، بعد أن عبّر الملك، بوضوح وصرامة، عن عدم رضاه عن أداء الحكومة الحالية، لاسيما فيما يتعلق بتفاوت وتيرة التنمية، واستمرار ما سماه بـ”مغرب يسير بسرعتين”، أي مغرب نافع وآخر مهمّش.
الخطاب الملكي لم يكن خطاب عيد أو تهنئة، بل جاء بلغة أقرب إلى التقرير الصارم، حيث كشف عن فجوة مقلقة في العدالة المجالية، ونبّه إلى أن بعض الجهات مازالت “تنتظر ثمار التنمية”، رغم الشعارات الكبيرة التي تروّجها الحكومة منذ تنصيبها.
ورغم أن الملك لم يسمِّ المسؤولين بأسمائهم، إلا أن الرسالة وصلت بصوت عالٍ وواضح: رئيس الحكومة ومن معه مطالبون بالخروج من المكاتب المكيفة، والتوقف عن بيع الأوهام، والبدء فعليا في تنزيل مشاريع ملموسة يشعر بها المواطن البسيط في المناطق المنسية.
والمُلفت أن خطاب الملك لم يترك مجالا واسعا للمناورة السياسية أو التبرير، فقد وُجه إلى الشعب المغربي، دون وسطاء، وبشكل مباشر، ما يجعل رئيس الحكومة أمام مساءلة وطنية لا مفرّ منها، وأمام انتقادات ملكية لم يعهدها المغاربة بهذا الوضوح منذ سنوات.
في المقابل، تصريح أخنوش بدا أشبه بمحاولة لتلطيف وقع الخطاب الملكي، أو بالأحرى امتصاص الصدمة. إذ تحدث عن “أهمية الخطاب” و”الآفاق الجديدة”، دون أن يتجرأ على قول الحقيقة، حقيقة أن حكومته أخفقت في خلق نموذج تنموي متوازن، وأن سياستها تدور في فلك الأرقام التجميلية والتقارير الورقية التي لا تعكس واقع ملايين المغاربة المحرومين من أبسط مقومات الكرامة.
والأدهى أن الرجل لم يُقدّم أي التزام عملي أو أجندة زمنية واضحة لتصحيح هذا المسار. لم يُحدّد ما إذا كانت الحكومة ستراجع سياستها، أو تغير من أدوات تدخلها، أو تُنهي حالة العزلة البيروقراطية التي تشتغل بها منذ ثلاث سنوات.
فمنذ توليها، روّجت حكومة أخنوش لكونها حكومة الكفاءات، والمشاريع الكبرى، والاستثمارات الضخمة. لكنها في الواقع، ظلّت حكومة السرعة البطيئة، تُركّز على ما يظهر في الإعلام وتُهمل ما يظهر في حياة المواطن. ولم تُفلح في تخفيف العبء عن الطبقات الهشة، ولم تُحدث اختراقات حقيقية في المناطق القروية، ولم تُقنع الرأي العام بأن لديها رؤية واضحة لتقليص الفوارق المجالية والاجتماعية.
وإذا كان الملك قد عبّر عن انزعاجه من هذا “اللاتوازن في التنمية”، فذلك لأنه يرى الهوة تتسع بين الجهات الغنية والفقيرة، بين الحواضر والمداشر، بين الواجهة والباطن. وهذا ما فشلت الحكومة في تصحيحه، بل وأحيانا غذّته بسياسات انتقائية تُكرّس تفاوت الفرص بدل معالجتها.
فهل يكفي أن يخرج رئيس الحكومة ليقول “نحن معبؤون” دون تقديم كشف حساب حقيقي؟
وهل يحقّ لحكومة فشلت في تحقيق التوازن المجالي أن تستمر وكأن شيئًا لم يكن؟ أم أن المطلوب اليوم هو محاسبة سياسية جريئة، تعترف بأن نصف الولاية مضى دون أن تتحرك عجلة التنمية كما كان منتظرًا؟
في أنظمة ديمقراطية، يُلزم الخطاب الملكي كهذا الحكومة بتقديم تقرير مفصّل للبرلمان والشعب حول ما تم إنجازه وما لم يتم، ولماذا، ومتى؟
لكن في المغرب، يبدو أن أخنوش يراهن على ثقافة “التجاوز والصمت”، دون أن يُدرك أن الرسالة هذه المرة جاءت من رأس الدولة، ولا يمكن تجاهلها.
المرحلة المقبلة لا تقبل الشعارات، بل تتطلب قرارات شجاعة، ورؤية إنقاذية حقيقية، لأن استمرار الوضع كما هو يعني إنتاج نفس النتائج المخيبة.
وإذا لم تتغير سرعة الحكومة، فإن الهوة بين خطاب الدولة وانتظارات الشعب ستتحول إلى أزمة ثقة مزمنة، إن لم تكن كذلك أصلا.