العيادي يكتب من برشلونة عن انتخابات اسبانيا 

الثنائية القطبية الحزبية تحتاج لوافد بيئي سياسي جديد لحسم الأزمات السياسية المستقبلية

فعلها جاك شيراك، الرئيس الفرنسي السابق سنة 1997، وكانت النتيجة عكس ما كان يطمح إليه. حل البرلمان، وأعلن عن انتخابات تشريعية، خسرها اليمين الفرنسي، ووصل تحالف اليسار لرئاسة الحكومة، بقيادة ليونيل جوسپان من سنة 1997 إلى 2002، سنة الصعقة اليمينية المتطرفة. خسر جوسپان بعدها الرئاسيات الفرنسية، بل وأعطى لليمين المتطرف فرصة لوصول جون ماري لاپان للدور الثاني، والبقية ما نزال نعيش آثارها بعد كل انتخابات. خسر شيراك الحكومة والأغلبية البرلمانية، وخسر جوسپان رهان الانتخابات الرئاسية، رغم الحصيلة الجد محترمة لقيادته للحكومة. لم تشفع لشيراك نيته الديموقراطية، ولا شفعت لجوسپان حصيلة حكامته. وكذلك كان في الانتخابات التشريعية الإسبانية بعد حل البرلمان من طرف سانشيز، ودعوته لانتخابات سابقة لأوانها في عز الصيف، وفي مدة قصيرة، باعتبار أهمية هذه الإستحقاقات. فهي أهم محطة بعد اعتماد الديموقراطية بالبلاد. ولا أدل على ذلك تعقد الصورة السياسية وانفتاح المجال أمام أزمة سياسية حقيقية بالنظر للنتيجة الانتخابية: النفق المسدود، و ليست على إسبانيا بجديدة.

في ظروف مختلفة، وتحت سقف سياسي مختلف تماما عن الحالة الفرنسية الفرنسية، دعا پيدرو سانشيز، زعيم الحزب الإشتراكي الإسباني، ورئيس الحكومة، إلى حل البرلمان، وعقد انتخابات تشريعية سابقة لأوانها. انتخابات تعد بداية عهد جديد بوافد جديد، اليمين المتطرف.

 جاء قرار سانشيز هذا بعد سلسلة هزائم محلية للحزب الحاكم لصالح الحزب المعارض، الحزب الشعبي المحافظ. قرار سياسي يبرز إلى أي مدى إسبانيا سائرة في التأسيس لديموقراطية حقيقية تختلف عن الأنظمة السياسية المرجعية، بالإتحاد الأوروپي كالفرنسي الذي افتتحنا به مقالنا هذا.

هل كانت مغامرة من سانشيز، وهو الذي حقق لإسبانيا أكبر معدل نمو بنسبة 5.5% في لحظات أوروبية ودولية عسيرة؟ هل ستشفع له نتائجه، ويحتفظ اليسار بالأغلبية الساحقة إذا حدث توافق مرجعي بين الإشتراكي الإسباني، واليسار المتطرف سومار، والنواب الكاتالانيين والباسك؟ هل سيؤدي ثمن الإختيارات الإجتماعية، من قبيل قضايا الأقليات، والمثليين وكل القيم الإجتماعية التي خلخلها سانشيز تماشيا مع الخط العام في العالم بقيادة الليبرالية الديموقراطية؟ هل ستؤكد هذه التشريعيات الإسبانية النهج العام الأوروپي، بدخول اليمين المتطرف لخانة القيادة، والحكامة في عدد من الدول الأوربية، الوازنة من قبيل إيطاليا؟ لا يمكن تصور نجاح انتخابي باهر لزعيم اليمين الشعبي المحافظ ألبيرطو نونز فايخو دون تحالف مع حزب ڤوكس اليميني المتطرف، ورغم هذا التحالف يبقى بعيدا عن الأغلبية الساحقة. في المقابل و بنفس المنطق، لا يمكن للحزب الإشتراكي، أن يحصل على أغلبية دون سومار و النواب الكاتالانيين و الباسك، وآخرون ممن حصلوا على مجموع نواب يصل لثمانية وعشرين صوت. فهل سيمضي سانشيز عقد الصلح مع الإنفصاليين الكاتالان و قيادتهم التي تعيش في المنفى. النواب الكاتالان هم مفتاح سانشيز نحو الأغلبية الساحقة. بأي ثمن و تحت أي سقف؟

إسپانيا، جوهرة أوروپا و المتوسط، بوابة جيوسياسية لا محيد عنها للضفتين أو القارتين، وبالنظر للأرقام الإقتصادية قد نستطيع القول بأنها مستقبل الإتحاد الأوروپي. على أقل تقدير، مستقبل الإتحاد الأوروبي يمر من إسبانيا. بلاد تشتغل في صمت، تحقق نسبة نمو عظيمة مقارنة مع ألمانيا التي أعلنت عن نسبة عجز بنسبة 0.5 % و فرنسا التي تواجه شعبها حول الملفات الإجتماعية بلغة قانون 49.3 و إيطاليا التي تحاول شق طريقها نحو كرسي القيادة الأوروپية.

 إسبانيا، تغامر بقرارات سيادية تتهرب منها دول أخرى : قانون الهجرة، إدماج المهاجرين، الأمن الداخلي، احترام الديموقراطية حتى لو كانت في غير صالح الحاكم… إسپانيا التي لا نسمع لها شهيقا، ولا زفيرا في الحرب المفروضة على أوروپا شرقا ضد روسيا. إسپانيا النظام السياسي الذي لو حكم عليه بمعايير علمية لاعتبر من أعقد و أكبر الأنظمة الديموقراطية. فليست كل الأنظمة قادرة على تسيير وطن لجهات تتمتع باستقلالية مهمة عن المركز. و مع كل هذا لا تسترعي إسبانيا الإهتمام الإعلامي، والدليل انتخابات 2023 التي تقام اليوم بربوع إسبانيا، لم تجذب اهتماما بمستوى الإهتمام الذي تحظى به فرنسا مثلا. مع العلم أنها تقود الإتحاد الأوروبي منذ الفاتح من جوييي الى نهاية دجنبر 2023.

ربحت الديموقراطية، و ربحت إسبانيا ثاني أهم معركة سياسية وجودية، للإجهاز على الفرنكاوية : معركة الديموقراطية و التنمية. و هذه الإستحقاقات أهم المحطات منذ اعتماد النظام الديموقراطي في البلاد.

أما الخاسر الأكبر في هذه الحملة فهي البيئة. الهموم البيئية لم تكن حاضرة بالشكل الذي يجب أن تكون عليه. إسبانيا في مواجهة مباشرة مع التغيرات المناخية و آثار هذه التغيرات. قد نجد شرحا لهذا الغياب لكن لا شيء يبرر أن تستصغر الهموم البيئية و العالم كله قابض على جمر التغيرات المناخية و الإشكالات الطاقية. ما يشرح هذا التغييب هو كون إسبانيا ما تزال تبني مرحلة ما بعد الفرنكاوية، والهم البيئي غير حاضر إلا قليلا. يؤكد الباحثين، أن طقس شمال المتوسط بمن فيها إسبانيا سيكون مشابها لطقس شمال إفريقيا بسبب هذه التغيرات المناخية. ثم إن التغيرات المناخية تؤثر على تنقل الأشخاص، أي الهجرة، وإسبانيا وجهة ضرورية، وبداية رحلة نحو الإلدورادو الأروپي. و هذا في حد ذاته تحد يستغله اليمين المتطرف في كل بلاد أوروپا للتقرب أكثر من كراسي القيادة الوطنية الحكومية والرئاسية. و قد فعلها في هذه الإنتخابات التشريعية الإسبانية، إذ فتح الباب على مصراعيه للدخول في الحكومة. بعد أقل من عشر سنوات، يحقق حزب الڤوكس اليميني المتطرف نجاحا باهرا، يعزز مكانة اليمين المتطرف في أوروپا. هل من مبرر لغياب مطلق لحزب بييي إسبانيي يزن على الأقل 8 % من الأصوات. و هو بذلك يكون سند لليسار أو لليمين . كل شيء يتوقف على الجهة التي ستتزوج بالقضية البيئية.

كان اليوم أمام الشعب الإسباني، تحد كبير، وحلين اثنين لا ثالث لهما، واختار الأعقد. و بما أن الدولة لا حق لها في الخطأ، فالتحدي الأكبر هو إعطاء مفاتيح البلاد لمشرعين و منفذين بدون حق في الخطأ. مستقبل دولة يلعب في جو دولي، وإقليمي مكهرب، ونوع من التجاهل الشعبي لهذه الحملة الإنتخابية. أما الحلين فالحل الأول أن يضع مصالح البلاد في أيادي اليمين، واليمين يحتاج لأقصاه لتحقيق الأغلبية الساحقة. الحزب الشعبي الإسباني حكم و يعرف جيدا كيف تسير دولة، مثل الحزب الإشتراكي، أما المتطرفون و الشعبويون، قد ينتصرون لاختيارات سياسية غير سليمة كان في اليمين المتطرف أو اليسار المتطرف. بهذا الإختيار ستتأكد الموجة العامة العابرة لأروپا ، موجة اليمين المتطرف في الحكم. أما الحل الثاني، فهو مباركة الحكومة السابقة بإعطاء الأغلبية للحزب الإشتراكي الذي ألف، وجرب التوافق مع اليسار المتطرف. له حصيلة مشرفة. سبق له أن حكم و له التجربة الكافية لقيادة البلاد في مرحلة مقلقة إقليميا ودوليا.

 يبدو أنه اختار درب التغيير المطلق لنهج الحكامة وللبرنامج السياسي. يشكو كثير إسبان، بل و في ربوع أوروپا من المتطرفين يسارا.

تتأكد في هذه الإنتخابات الإسبانية خاصة، أن إسبانيا دولة ديموقراطية كبيرة، ولها آفاق واسعة. نتائج الإنتخابات تبين العديد من المواقف المستقبلية الممكنة من قضايا وطنية، ودولية وعلى رأسها العلاقات مع المملكة المغربية، على هامش الصراع على الصحراء الغربية، وملفي سبتة و مليلية. الملكيتين أهم في حل هذه الأزمات العابرة،  وسوء الفهم الممكن من أي أغلبية سياسية حكومية، وهذا بالضبط موقف زعيم الپپي رئيس الوزراء المقبل لاسبانيا . 

ظل المغرب كان حاضرا في الإنتخابات من خلال الملفات العالقة بين الطرفين. خلاصة الخلاصات، أكد النظام السياسي الإسباني بأنه ديموقراطي، وقد نجح في التأسيس لملكية فدرالية ديموقراطية حقيقية. غياب الملفات والتحديات البيئية، وقوة سياسية خضراء، من هذه الإنتخابات التشريعية نقطة حاسمة في مستقبل إسبانيا. لا يمكن لاسبانيا أن تتجاهل التغيرات المناخية وآثارها. معدل النمو مهم للإقتصاديين، أجل، لكن الضريبة البيئية، يدفعها المواطن والأرض. مهما تكن الأغلبية، يبقى الشعب الإسباني، متمسكا بوحدته العضوية في مقابل محاولات الإنفصال، وتبقى الأحزاب التقليدية أساس الدولة أما المتطرفون فهم على أكبر تقدير ظواهر زائلة.

و هنا إشكالية التحالف الممكن بين اليمين المتطرف، واليمين التقليدي. الإشكالات البيئية، مثلا، من الملفات التي تحسم على المستوى الأوروبي، في حين أن اليمين المتطرف متموقف سلبيا من الاتحاد، و يعتبر السيادة الوطنية، أهم من الانتماء للإتحاد الأوروبي. كيف سيتعامل حزب فوكس، واليمين المتطرف الأوروبي مع الاتحاد ألأوروبي، هم أصلا يطالبون بإسقاطه، والخروج منه، والعودة للعملة السابقة، بدل الأورو. 

سانشيز يدافع عن حصيلته، 5.5 % معدل نمو اسبانيا ونسبة التضخم تنخفض لأقل من 2 %. لكن حصيلته تتضمن تشريعات تمس نوعا ما بالهوية الوطنية، وثقافة الشعب. مثل قانون الأثانازي (أي الحق في الموت)، مثل كذلك الحق في تغيير الجندر (الجنس) … 

من العوامل التي لعبت دورا في نتيجة هذه الإنتخابات: المساس بالقيم المحافظة للشعب الإسباني، و ليس الحصيلة. هنا نتذكر تجربة ليونيل جوسپان بفرنسا. حصيلة مشرفة كوزير أول، لكن المعركة حسمت ضده حول ملفات أخرى. ثم إنه من المعلوم لأهل السياسة أن الحملة الإنتخابية لا تؤسس على الحصيلة، بل على البرنامج المستقبلي. على الوعود المستقبلية الممكنة، وليس الشعبوية الغير ممكنة ماديا مثل مقترح الدخل القار الاجتماعي بقيمة عشرين ألف دولار سنويا للشباب، بدأ من السن الثامنة عشرة كما جاء في برنامج اليسار المتطرف.

  لم تكف الحصيلة الحكومية لسانشيز لربح رهان، هو من قرر أن يضع نفسه فيه بحله للبرلمان، والعودة أمام الناخبين. عودة راهن فيها سانشيز على ما سبق، وعلى اليسار المتطرف سومار. اليسار الحكومي بأوروبا يتكون من ثلاث إلى أربع مدارس متحالفة لكن متناحرة: الشيوعيون، الاشتراكيون، اليسار المتطرف، والبيئيون أي الخضر. في حالة إسبانيا لا توجد قوة خضراء بيئية تعزز تحالف اليسار. لهذا ستستمر الأزمات السياسية التي تخلقها الانتخابات ما لم يتم الخروج من منطق الحزبين الكبيرين، واعتماد مقاربة تعددية تفتح أمام الفائز آفاق تحالفية. في حالة اسبانيا اليوم، لا يوجد أمام الطرفين، إلا المنتخبين الكاتالان، والباسك للوصول للرقم السحري، أي عدد النواب الذي يسمح بأغلبية مريحة. كم يحتاج سانشيز في هذه الظرفية حزب أخضر بنسبة ٨ % ! تضمن له ما تبقى لربح رهان الأغلبية الساحقة. كذلك بالنسبة لفيخو الذي سيجد نفسه عن بعد أقل من عشرة نواب عن الأغلبية الساحقة، إذا هو تحالف مع فوكس. الحزب الأخضر هو الغائب الكبير من هذه الإنتخابات، و حضور قوة خضراء، كانت يمينية أو يسارية، ستحسم الرهان. اليسار واليمين المتطرفين رغم النتائج المريحة غير قادرين على التوازن في هذه الانتخابات بتقديم ورقة تحالف رابحة.

مهما كان التحالف الذي سيكون الحكومة، وكل الرهانات مفتوحة، بما في ذلك تحالف اليسار، والنواب الكاتالانيين و الباسك، سيكون القيادي القادم، قد ورث ملفات مهمة، وينتظره عمل فوري و شاق خاصة، و أن إسبانيا كما أسلفنا تترأس أوروبا لستة أشهر والحرب قائمة على أبواب أوروبا، والأزمة الطاقية، وآثار التغيرات المناخية… ملفات كبيرة و معقدة. لكنه ورث أيضا دولة بمعدل نمو من أعلى المعدلات أوروبيا. يرث دولة ينتظر منها أن تعزز موقعها في الاتحاد الأوروبي، تحسن مستوى معيشتها حتى يتساوى على الأقل الحد الأدنى للأجور مع الجارة فرنسا، وورث دولة مطلوب منها أن تستغل موقعها الجيوسياسي، وعلاقاتها الملكية مع جنوب المتوسط لفتح صفحة شراكات بدل لغة الصدام. لبناء و فتح جسور جديدة لتقوية الإتحاد الأوروبي، بإشراك منطقة مينا و القارة الأفريقية.

أسابيع قليلة من الحملة لم تكن كافية لخوض معركة انتخابية حقيقية تعطينا كمهتمين أو مصوتين العناصر الأساسية، لفهم خارطة التحالفات، وطبيعتها، ونقاط التوافق، والاختلاف بين كل هذه المكونات السياسية. توضحت فيها الرؤيا بعد إعلان الأرقام. الخارطة السياسية الإسبانية أمام نفق مسدود إلا ما فتحه الكاتالان، و بأي ثمن سياسي، وهم انفصاليون. أزمة سياسية اسپانية من الطراز العالي تتشڭل. تجاوزها لن يكون إلا في صالح سانشيز. 

كتبها من برشلونة

عبد الغني العيادي، محلل سياسي خبير في الشؤون الأروپية.

قد يعجبك أيضا
اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.